زاوية المرسال

أمل دنقل .. الجنوبى والتراث

حينما رجع أمل دنقل إلي التراث وجد أنه يوجد أمامه کماً هائلاً من المصادر التراثية السخية، فأقبل عليها بنهم محاولاً استغلالها في شعره حسب تجاربه المعاصرة. إن الحديث عن هذه الروافد التي أغنت الشعر المعاصر حديث صعب، ولايمکن لنا أن نلم به في سطور مثل هذه لتعددها واختلاف طبيعة مصادرها. حيث تتنوع هذه المصادر علي التراث الديني والتراث الصوفي والتراث التاريخي والتراث الأسطوري والتراث الشعبيّ ….
أن انفعال أمل دنقل بالتعامل مع التراث كان أقوي من معاصريه عند مافتح عينه علي تراكم شعر دشنه جيل الرواد. فعنصر استخدام التراث تمثل في شعره بنحو واضح، بالإضافة إلي مكوناته الثقافية الخاصة، حيث قرأ كتب التراث منذ وقت مبكر وبحث عن القيم الجوهريه التي يوحي بها ذلك التراث.
وهذه هي أرملّة الشاعر عبلة الرويني تشهد أن الشاعر في هذه الفترة كان يطالع التراث العربي أحياناً كثيره؛ فتقول: «….في تلك السنوات قرأ العديد من كتب التراث والملامح والسير الشعبية، ثم أعاد قراءتها بعد ذلك مرات عديدة، وفي طبعاتها المختلفة، يحركه حس تاريخي لاكتشاف الطبقات المتراكمة وراء الحكايات والمعلومات. ….. » .
وهذا يرسم لنا صورة واضحة عن قراءة أمل دنقل لمصادر التراث العربي التاريخي والشعبي وبحثه الدائب في متون التراث والتأكيد علي هذا التراث وقيمه الجوهرية كما يُري لنا نوع مقروءاته.
وهو يعيد قراءته لتلك المتون مرات عديدة وفي طبعات مختلفة في دقة وتوثيق شديد مستهدفاً كشف القيم التي تمثلها مضامين تلك الكتب والمصادر التاريخية والقصصية، والشخصيات التي لها حضور دائم في أذهان الناس وهي تجتاز الساحة الثقافية العربية القديمة وتناضل ويقاوم الأعداء، كما تقاوم الغزوات الأجنبية في أرجاء التراث العربي المختلفة وتبحث عمن يُعيدهم للظهور مرة أخري وتتدافع البعضُ البعضَ في سبيل الظهور علي أرض الواقع في العصر الحديث.
إن توظيف أمل للتراث لم يكن في الجانب الفني فحسب بل بدأ علمه باحثاً فيه وناقداً له اهتم به منظِراً فقد كتب بحثاً تاريخياً حول قبيلة قريش تحت عنوان «قريش عبر التاريخ» وكان يشمل دراسة مطولة في أربع مقالات وقام بنشره في مجلة «أوراق». كما أنه كتب دراسة عن أسباب نزول القرآن من منظور التاريخي إلا أن جريدة «الأهرام» رفضت نشرها بسبب ماكانت تطلب دراسته ونشرها من الجرأة للطرح وماكانت تحتوي عليه من الآراء غير الموافقة مع ما جاءت به كتب التفسير المتدوالة بين الناس.
ومع ان احدا لا يستطيع ان يحدد مصادر ثقافته العربية والأجنبية بالضبط، فإن ثقافته، وبخاصة العربية،كانت جيدة، حيث انه قال في مقابلة، قبل وفاته بأسابيع: «اكتشفتُ انه لا يكفي للإنسان ان يكون شاعرا وقادرا على كتابة الشعر. فهناك كثير من التيارات الفكرية والثقافية التي كانت تموج في ذلك الوقت (أي في الستينات من القرن الماضي )، وكان لا بد لي من الإلمام بها. وهكذا انقطعتُ عن قول الشعر من سنة 1962 حتى سنة 1966، وكرست هذه الفترة للقراءة» .
فهذا الإهتمام بالتاريخ والدين صار مصدراً ثرياً هاماً في توظيفه وابداعه الشعري، إذ جعل شعره يزخر بالتراث القومي العربي والإسلامي وإن هذا التراث يغلب علي الأنماط الأخري، بحيث تقلّ الرموز الأسطورية اليونانية والرومانية والفرعونية في شعره. فأمل دنقل يختلف عن الشعراء الجيل الأول أمثال بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وأدونيس والبياتي الذين يكثرون من هذه الرموز والسبب في الإستخدام القليل من الرموز الأجنبية وميل الشاعر إلي الرموز العربية والتراث القومي هو أن القارئ العربي ليس لديه خلفية ثقافية للميثولوجيا والأساطير الأجنبية مع أن التراث العربي يعيش في وجدان الأمة العربية، فهو يبحث عنه أرضية مشتركة بينه وبين متلقي شعره .
ان دنقل كان يهدف من وراء استخدامه للتراث خاصة التراث القومي والديني تربية الحس القومي لدي الناس عامة ولدي أفراد يتميزون بجهلهم لتاريخهم ويضعف الشعور القومي عندهم. لهذا استدعي في أشعاره حجماً كبيراً من الشخصيات التاريخية والإسلامية والأخري من الأدب الشعبي والملامح التي تجسد بذكرها البطولات والأمجاد والشهامة والتضحية. وذلك لإزالة الغشاوة عن عيون الأمة العربية واضح دمائها في قلوب هذه الأمة التي نفذ فيها اليأس والقنوط، ومن أجل أن يعطي تلك الشخصيات التاريخية أبعاداً معاصرة تجعلها قادرة علي الحياة في الحاضر والماضي معاً،،لأن «شعر أمل دنقل من النماذج التي تتعأمل مع التراث في محاولة توظيفه عبر رؤية معاصرة» .
إن الدافع السياسي كان إحدي الدوافع عند أمل دنقل لاستعارة الشخصيات والعناصر التراثية، كما أن هناك دور هام للدوافع القومية والفنية والأسباب الإجتماعية والنفسية في اتخاذ الشاعر خدمة القضايا الوطنية، في الدفاع عن حق الشعب ومجده وتقدمه، من أولويات وظائف الشعر. بل الشعر ينطلق من الدوائر الثلاث؛ هي دائرة الذات ودائرة المجتمع ودائرة الإنسان، فيجب أن يكون الشاعر ملتزماً بقضايا الإنسان وفي هذا المضمار يكون الشعر لدي أمل دنقل «تواصلاً»، أي لايمكن كشاعر مثله أن ينقطع عن تراثه بل يجب أن يعي التراث أولاً، ومن ثم يتجه نحو التجديد، إذ أن التجديد لايكون من عدم
وهو يقول: «الشاعر في العالم العربي، وفي ظلّ الظروف الإجتماعية والسياسية السائدة مطالب بدورين: دورٌ فنيٌ، أن يكون شاعراً، دور وطنيّ، أن يكون موظّفاً لخدمة القضية الوطنية وخدمة التقدم، ليس عن طريق الشعارات السياسية وليس عن طريق الصياح والصراخ وإنما عن طريق كشف تراث هذه الأمة وايقاظ إحساسها بالإنتماء وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها.»

 

زر الذهاب إلى الأعلى