التراث الشعبي والخيال الفني
نقصد بالتراث الشعبي ما كان خاصًا بأمة من الأمم ، وتناقلته شفاهًا جيلاً بعد جيل ، ويندرج تحته : العادات ، والتقاليد ، والحرف اليدوية ، والفن الفطري ، وفنون الأدب الشعبي من أساطير ، وملاحم ، وسير شعبية ، وحكايات ، وأمثال ، وأغن ، وشعر عامي ، وغير ذلك .
وهذا التراث المتنوع لا تعدم أن تجد الكثير من المخيل المنافي للعقل والمنطق ، وهو شأن ينبغي توصيفه منهجيًا .
فالخيال الفني : تشكيل سحري يؤديه كلام يثير في المتلقي انفعالاً هدف إليه صانعه مع سبق الإصرار والترصد ، بعد أن تقصى حركته النفسية بتصميم واع ، وتقدير ذكي ، وهذا التشكيل السحري لا يقدر عليه غير الفنان المبدع ، وهو وفقًا لرأينا : أن تخلق من أشياء مألوفة شيئا غير مألوف في الفن عمومًا .
وقد أشار إلى أهميته في الإبداع نقادنا القدامى ، وأوضحوا قيمته الفنية في عملية الإدهاش ، والإثارة ، ولعل خير من وقف عنده من القدامى ابن سينا في كتابه (الشفاء ) حين قال : والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور ، وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار ، وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانيًا غير فكري ، سواء كان المقول مصدقًا به ، أم غير مصدق .
ولكننا في إشارتنا إلى الخيال الشعبي في الميثولوجيا العربية نتوسع مع قبول هذا السحر الفني ، فنشير إلى ما كان خارجًا عن مألوف الاستغاثة والقبول ، أي إلى ما كان خيالاً وهميًا لا مكان فيه للعقل ، ولا يملك سلطانًا من المنطق ، مثل : زواج الجن من بني الإنسان ، وعبث الغول بالمسافر ، و مشي النسناس برجل واحدة ، وقدرة (الهاتف) على تغير مواقف الرجال ، ومقاتلة بعض الحيوانات الخرافية للإنسان بالسيف إذا انفرد به ، وغير ذلك من أساطير ، ومعتقدات آمن بها بعض العرب ، وحفظتها لنا أسفارهم ورحلاتهم .
ولعل ما سبق يؤكد مقولة الشاعر / أودينيس (الذي نختلف معه دائمًا ) من أن : الأسطورة دفء للعقل والجسد ، وهنا أتذكر ما ذكره الشاعر الفرنسي / باتريس دولار دوبان في عبارته الجميلة : (الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد) ، ولعل هذا خير دليل على أهمية هذا الدفء الفني .
16 دقيقة واحدة