علمتنا مجريات الدهر أن حوادث التاريخ المكتوبة في لحظتها الآنية ليست قرآنا معصوم من الهوى، فمن الأفضل التريث لعشرات الأعوام حتى تتضح حقائق الأمور، ففي كل عصر يوجد مرتزقة للكتابة، وهؤلاء لا تعنيهم الحقيقة بقدر ما تبهرهم رنين الدراهم، وبحبوحة العيش. وهناك من له أيدولوجية يسعى لبسطها وغرسها في عقول الناس، مثل المؤرخين المستشرقين. وهناك أيضًا آخرون عاطفيون؛ يزنون الأمور بعواطفهم، وبعين مُحبة، فيُعَرِّضون الحقيقة للمغالطة بدون قصد، كالمؤرخ المعروف المقريزي فقد عُرف بحبه لآل البيت، كما عرف بمؤرخ الدولة الفاطمية، الذي قام بتأليف كتاب (اتعاظ الحنفا بأخبار الفاطميين الحنفا) حاول فيه تأكيد نسب العبيديين للسيدة فاطمة الزهراء، رغم أنه لم يكن شيعيًا.
أما في تاريخنا الحديث، فهناك أحداثًا ظل الغموض يكتنفها لحقب طويلة حتى جاء من يميط عنها اللثام ويعيد الأمور لنصابها. ومن تلك الأحداث، ثورة الزعيم عرابي، التي سُميت آنذاك (هوجة عرابي)، وليست ثورة عرابي. ظل أحمد عرابي منبوذًا في حياته إلى بعد وفاته بعشرات السنين، في نظر العموم شقيًا وعاصيًا، ومتهمًا في وطنيته، وبالتسبب في احتلال الانجليز لمصر. لأسباب كثيرة، منها القصر الحاكم، والباب العالي (السلطان العثماني) والجهل، والأهم الصحافة. فجاء فى بيان الخديوى توفيق: الشقّى العاصى أحمد عرابى ارتكب آثامًا فظيعة…. العاصى ابن العاصى والكافر ابن الكافر عددناه عاصيًا….. العساكر الإنجليزية يعتبرون نائبين عنّا فى قطع دابر عرابى ومن معه. وأقام الولائم لجيش الإنجليز بمناسبة هزيمة عرابي .وبدوره أعلن السلطان العثمانى عبدالحميد الثاني: إن عرابى مارق.
ومن ثم تتبعت الصحافة آنذاك نفس النهج الخديوي المناهض لفكرة الثورة والتحرر، فغدت تضلل الرأي العام، وتشوه صورة الزعيم أحمد عرابي، بينما كان العالم الخارجي ينظر بإعجاب وإنبهار لشخصية الزعيم. فبعد أن تم القبض على عرابي ورفاقه كتبت الأهرام في العدد 1446 بتاريخ 15 سبتمبر 1883 ”
البشرى العظمى
….. بشراك يا مصر بشراك فقد نلت المنى ودخلت العساكر الانكليزية باسم الحضرة الخديوية عاصمة البلاد فاحتلتها وقبضت على عرابي وطلبه وإخوانهما واستلمت القلعة وقصر النيل وسواهما من المراكز العسكرية وتسنى لسمو خديوكِ المعظم أن يتم فيكِ مقاصده النبيلة الآيلة إلى نجاحكِ وترقيكِ وانفتحت لابنائك أبواب العصر الجديد فادخلوها بسلام آمنين وارتع أيها الأمير في بحبوحة النصر والظفر واهنأ فأن لك من المهيمن عضدًا وعونًا ومصر تناديك أنت روح البلاد فبك حياتها أطال الله بقاء سموك وحفظ أنجالك الكرام
العاصي عرابي
والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا
أين المفر أيها الباغي وسيف العدل مسلول بماذا تحتج الآن وأنت في قبضة جيش الانكليز الباسل ……………………………….”
حتى أحمد شوقي؛ أمير الشعراء لم يسلم عرابي من قلمه، فتورط في هجائه عند عودته؛ بعد عشرين سنة قضاها في المنفى، ترضية للسلطة الخديوية آنذاك فقال:
صـَغـار في الذهـاب وفي الإياب *** أهــذا كـــل شــــــــــــــــأنك يـا عــــــــرابي؟
عفـا عــنك الأبـاعــــــــــــد والأدانـــــــي *** فمـن يعـفو عن الوطـن المصـاب؟
غالبًا يكون رأي من هو خارج حيز الحدث، أكثر حيادًا وشمولاً ووعيًا من بالداخل، لتحرره من التشويه المتعمد، فالعالم الخارجي وقف ينظر للتجربة المصرية بإعجاب، وتمثل ذلك في الأديب العالمى فيكتور هوجو، الذي كتب فى صحيفة نيويورك تايمز عدد 3 أكتوبر 1882 ” لماذا يحاكَم أحمد عرابي؟ هل سيعدمونه قتلًا بالرصاص؟ هذه ليست حضارة. الخديوى توفيق يقول إنّه متمرّد، هل هو كذلك؟ لا.. إنّه رجل يبحث عن حريّة بلاده.. إنّه لا يريد سوى ذلك.. ما الأمر إذن؟”
ورغم التشويه الممنهج من الإنجليز في البلاد التي نُفي إليها، كانت ردود شعوب شرق أسيا صادمة لهم، فقد أستقبل الزعيم بحفاوة بالغة، وراحت الوفود تنهال على مكان إقامته، مما أضطر لتنظيم مقابلاته مع محبيه. لم يكتف عرابي ما فعله في بلاده، فأسّس هناك المدرسة الزّاهرة عام 1892 على اسم الأزهر الشريف، وشجّع المسلمين وباقى السريلانكيين على تعليم البنات. وحسب الباحث المصرى صبرى حافظ فى كتابه مرايا الثورة العرابية، فإنّ عرابى كان بطل التعريب والتعليم، وموحِّد المسلمين السريلانكيين حول مشروع نهضوى وطنى بامتياز. ولقد وأسس مؤسسة عرابى باشا التعليمية فى مدينة كاندى.
غير أنه ظل في نظر شعبه خائنًا، فقد ذكر رفعت السعيد في كتابه( الأساس الاجتماعي لثورة عرابي) أن عرابي جلس في أحد مقاهي المنصورة، وإذا بشاب يقترب منه متسائلاً: أأنت عرابي باشا الخائن؟ فرد عرابي عليه: نعم أناعرابي، لكنني لست خائنًا، ولست باشا.
ظل عرابي هكذا في نظر الأمة حتى وفاته، لكن أنصفته ثورة يوليو 1952 ، بعد وفاته بأربعين عامًا.
فهل من مذكر ؟؟
87 3 دقائق