أهم الأخبارزاوية المرسال

صلاح عبد الصبور والتراث

صلاح عبد الصبور والتراث

والوقوف عند مدرسة الشعر الجديد والتي ازدهرت في بداية الستينات من القرن العشرين يحتم الوقوف عند رائدها / صلاح عبد الصبور ، لنشهد عنده توظيفًا واعيًا للتراث الشعبي في مضامينه المختلفة ، في قصصه وأمثاله وحكاياته ورؤاه وتعبيراته وذوقه الفني ، بل نستطيع أن نجد في شعر صلاح عبد الصبور منذ البداية الأولى في ديوانه (الناس في بلادي) ، هذا التأثر الواضح بالتراث الشعبي العربي والمصري ، والذي يجده الأستاذ / بدر الديب الذي كتب مقدمة الديوان : وسيلة من وسائل التحرر من المصطلح مع غيره من تراثات ، ويشير على وجه الخصوص إلى قصائد : (رحلة في الليل) و (الناس في بلادي) و (الملك لك) و (أغنية حب) و (رسالة إلى صديقة) .

فمنذ القصيدة الأولى في الديوان الأول لصلاح عبد الصبور نقف عند هذه العبارات : ” الرخ مات ـ فاحترس ـ الشاه مات ” ، ” الطارق المجهول يا صديقتي ملثم شرير ” ، ” في آخر المساء عاد السندباد ” ، ” ويلعب الأطفال فوق أسطح البيوت ـ لعبة العريس والعروس ، والتبات والنبات ” ، ” لنكمل النزال فوق رقعة السواد والبياض ” .

ونسمع إلى ” كان يا ما كان” في قصيدته ” شنق زهران ” : ” كان زهران غلامًا ” ، ويصف زهران هذا الوصف :

أمه سمراء .. والأب مولد .

وبعينيه وسامة .

وعلى الصدغ حمامة .

وعلى الزند أبو زيد سلامة .

ممسكًا سيفًا ، وتحت الوشم نبش كالكتابة .

اسم قرية .

دنشواي .

فصورة زهران بهذه الكيفية منذ البداية صورة بطل شعبي ، يصفه الشاعر بوشمه ، ولونه والنبش الذي يحمل اسم قريته ، وصفًا خارجيًا يحمل كل صفات البطل الشعبي المصري الذي يذكرنا ” بحسن ” المغنواتي ، صاحب نعيمة ، أو ” يا سين ” ، ثم ينتقل إلى وصفه الداخلي ، فهو : شاب وفتي ونقي وقوي ، وضحوك ولوع بالغناء و ” سماع الشعر في ليل الشتاء ” ، ثم ينتقل إلى التعبير المباشر بصيغة ” الراوية الشعبي” :

كان يا ما كان أن زفت لزهران جميلة

كان يا ما كان أن أنجب زهران غلامًا .. وغلامًا .

كان يا ما كان أن مرت لياليه الطويلة ..

ونمت في قلب زهران شجيرة .

وعندما يشنق زهران ، أحد أبناء قرية دنشواي في حادثتها المشهورة سنة 1906 م ، يصور الموقف بعبارات بسيطة التركيب تستدعي صورة من تراث الحكايات الشعبية العربية التي عرفناها :

وضع النطع على السكة والغيلان جاءوا .

وأتى السياف (مسرور) وأعداء الحياة .

والشاعر يستعين هنا بمسرور ، السياف الذي وعته وحفظته ذاكرة الشعب العربي ، وواضح من استخدام الشاعر حسه الواعي بالتناقض بين اسم السياف ووظيفته ، والذي قد يحمل دلالة ساخرة .

والحس بالتراث الشعبي منتشر بشكل كبير في ثنايا قصائد الديوان جميعًا ، بشكل ملفت للنظر ، ولا تكاد تخلو منه قصيدة واحدة ، ويبدو في تكوينات النص المضمونية أو في عبارة من العبارات المستخدمة المنبئة عن تشبع واع بهذا الجانب في ثقافة الشاعر المتنوعة شديدة التنوع ، ففي (الناس في بلادي) وصف في المقطع الأول للناس ، ينتقل منه إلى صورة ” عمي مصطفى ” وحوله الرجال يحكي لهم حكاية ، تجربة الحياة ، وهي صورة شعبية ريفية متكررة لا في مصر فحسب ، ولكنها متكررة في تحلقات الشعب العربي حول راويته ، يحكي له حكايات وسير التراث الشعبي ، من عنترة بن شداد والزير سالم إلى سيرة بني هلال وغيرها .. ولن هذه الصورة مسيطرة على ذهن ووجدان الشاعر نجده ينساق لا شعوريًا إلى استخدام بناء الحكاية الشعبية ، التي يجملها بين علامتي تنصيص داخل القصيدة ، على النحو التالي :

” ما غاية الإنسان من أتعابه ؟ ما غاية الحياة

يا أيها الإله !!

الشمس مجتلاك .. والهلاك مفرق الجبين .

وهذه الجبال الراسيات عرشك المتين .

وأنت نافذ القضاء .. أيها الإله !

بنى (فلان ) واعتلى وشيد القلاع .

وأربعون غرفة قد ملئت بالذهب اللماع .

وفي مساء واهن الأصداء جاء عزريل

يحمل بين إصبعيه دفترًا صغيرً .

وأول اسم منه ذلك الفلان .

ومد عزريل عصاه .

بسر حرفي (كن) ، بسر لفظ (كان) .

وفي الجحيم دحرجة روح فلان …. ”

والمحتوى في هذه القصة نجده متكررًا على كافة المستويات الشعبية من الأمثال إلى الأغاني إلى الحكايات والقصص فالفلان هذا لم يمنعه ماله عن أن تدحرج روحه في الجحيم ، ولم يفده ” الذهب اللماع ” شيئًا ولم يصن روحه من أن “تدحرج ” في الجحيم ، بينما ” عم مصطفى” يوسد التراب ، فهو لم يبتني القلاع ، كان كوخه من اللبن ، وسار خلف نعشه القديم من يملكون مثله جلباب كتان قديم ، وهم فقراء لم يذكروا الإله أو عزريل ، أو حروف (كان) فالعام عام جوع .

أما قصيدة (الملك لك) فهي تشير أيضًا إلى ارتباط الشاعر الوثيق ببيئته التي يبدو أنه تعرف عليها من خلال معايشته لها من ناحية ، ومعرفته بالتراث الشعبي من ناحية أخرى ، بدأ من العدات والتقاليد في المناسبات المختلفة وانتهاء بالتعبير الأدبي الشعبي ..

والشاعر يبدأ بمقدمة إلى (واحدته) ليحكي ” الحكاية من بدئها لحد الختام ” ، والحكاية نابعة من حكايات التراث الشعبي وتقاليدها ، وارتباط الطفولة بحجر الأم ، والسندباد والعاصفة والغول في قصر المارد ” وتهتف أمي باسم النبي ” وعندما يموت شقيقه ويوارى التراب يدق الحديد على قبره ، وهنا تطوف برأسه فكرة : أكان يدق صليب الحديد على رأسه يوم كان قويًا .. ؟ !!

ومن موته انبثقت صحوتي

وأدركت يا فتنتي أننا

كبار على الأرض لا تحتها .

ولا شك أن الوقوف عند كل قصيدة من قصائد الديوان سوف تشعرنا بمدى براعة الشاعر في توظيف التراث الشعبي الوافد من تراث الأدب العربي في قصص ألف ليلة وليله ، والذي يبدو في استخداماته لصيغ وشخصيات الحكايات المختلفة فيها ، أو التراث الشعبي المصري ، الذي نبت نبتًا نابعًا من طبيعة الريف المصري ، والحياة المرتبطة به .

ولا يسهل على الباحث التوقف بالرصد المعجمي للألفاظ المستخدمة ، ولكننا سوف نكتفي بنموذج آخر من هذا الديوان ، نختبر منه معجم الشاعر الموحي لهذه الدلالات الشعبية ، ففي قصيدة (لحن) نجد هذه المفردات : بحر عميق / قرصان / سبع صحاري / القلعة / الفارس الأشقر / مولاي / أميرًا / المضحك الممراح / شمس النهار / أفراخ حمامه ، وهي مفردات تخرج مباشرة من بعض حكايات ألف ليلة وليلة ، ولكنها توظف وتكتسب معنى دلاليًا جديدًا ، يربط بين التراث والمعصرة في ذهن المتلقي ، ويحيل إلى عدد من التداعيات لا تبدو مباشرة ، ولكنها تنتج الفرصة للمتلقي ليتلاءم معها في تصور ينبع من ذاته .

والوقوف مع الشاعر في ديوانه عند قصيدة (رسالة إلى صديقة) يثير عددًا كبيرًا من التساؤلات حول التجربة والثقافة الشخصية والمعايشة الفكرية التي يجب أن يكون عليها الشاعر الحكيم ، أو حكيم الشعر ، وكما يذهب العديد من النقاد إلى أن صلاح عبد الصبور في هذه القصيدة يبدو في قمة تألقه الفكري والوجداني على السواء رغم صغر سنه مع مثل هذه التجارب التي تقدم مزيجًا من الحب والتراث الشعبي والصوفي والأدبي جميعًا ، وهذا المزيج العجيب الذي كون محتوى الشاعر الداخلي ، والذي أتيح له الظهور في بعض المواقف الشعرية والشعورية دون غيرها ، وهذه القصيدة واحدة من هذه المواقف والتي أنبأت مبكرًا جدًا عن مزيج تكوينه الثقافي العريض ، إذ هي من نتاجه ، وهو في منتصف العشرينات ، وقد ولد الشاعر سنة 1931 م ، وصدر ديوانه (الناس في بلادي) في طبعته الأولى سنة 1957 م – يجدر بالذكر هنا أن الشاعر / صلاح عبد الصبور له كتابات مهمة عن الفولكلور وعن الفن الشعبي ، وعن الفنون الشعبية المختلفة ، وحاول أن يجيب على سؤال كبير فحواه : هل تتعارض الفنون الشعبية المختلفة مع القومية العربية الواحدة ؟ ، ومن هذه المقالات ما نشره بمجلة صباح الخير في أعدادها الصادرة على التوالي 17 ، 24 يناير 1957 م ، و 3 أبريل 1958 م .

زر الذهاب إلى الأعلى