بداية وقبل اي شيئ نحاول بهذا التقرير توضيح وتفصيل كل الخزعبلات المتداولة حول علاقة الجن بالانسان مثل
ادعاء مسّ الجن للإنسان هو ادعاء لا يدعمه الدين ولا العلم، وإنما الصرع بأنواعه هو مرض نفسي، سواء كشف العلم عن أسبابه أو لا، لكن ليس أمامنا طريق قادر على تقديم حلول عملية ومفيدة سوى العلم.
هل الجن موجود؟
عقلًا، وجود الجن ليس مستحيلًا، وليس واجبًا، بل هو ممكن. لكن لا يستطيع العقل استنباط وجود الجن، ولا استنباط صفاته، لذلك كل ما نعرفه عن الجن مصدره الوحي الإلهي فقط.
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ).
(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).
(يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ).
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)
إذن فالمصادر لا تمدنا إلا بصفات قليلة عن الجن: الجن هي كائنات عاقلة مخلوقة من نار، منها المؤمن والكافر، وتتزاوج فيا بينها ولها ذرية، وتوسوس الشياطين للبشر.
وجدير بالتحذير أن كثيرون لا يعجبهم فقر المعلومات، فيجتهدون لسد الثغرات، وفتح الأبواب، وإجابة الفضول، حتى لو كان بغير هدى ولا دليل، فيسألون: كيف يوسوس الشيطان؟ هل يتزوجون؟ أين يعيشون؟ ماذا يأكلون؟
وفتشوا في قصص الديانات الأخرى، وأضافوا الأحاديث ونسبوها للنبي لترضي فضول السائلين، حتى تراكمت خرافات هائلة عن الجن!
فأصبح وجود الجن في المعتقدات الشائعة أكثر حضورًا من الملائكة، رغم أن الإيمان بالملائكة من أصول الإيمان، بينما الإيمان بالجن ليس كذلك!
ولما سكت النص عن هذه الأسئلة، فيجب الوقوف عندها، (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
هل يعلم الجن الغيب؟
1. قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
تثبت الآية أن سليمان رغم موته، وجمود جثته أمام الجن، إلا أنهم لم يعلموا ذلك!
وتنص صراحة ووضوحًا وقطعًا على عجز الجن عن معرفة الغيب: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
ولا تثبت الآية فقط أن الجن لا يعلمون الغيب، بل في الآية استهزاء وتسفيه من قدرات الجن ومعلوماتهم، فكيف جهلوا موت سليمان رغم أنه أمامهم؟! فما بالك بما يغيب عنهم؟!
2. وقال تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا).
وهو قول فصل وحكم قطعي على لسان الجن أنفسهم بأن الجن لا يعلمون الغيب، ولا يسترقون السمع، ولا يعلمون ما هو خير للبشر وما هو شر لهم. وبذلك يفطم القرآن البشرية عن حقائب من تاريخها كانت تتعكز على السحرة والكهان بحجة أن الجن يمدوهم بالغيب.
هل يسخِّر الإنس الجن ويروهم؟
1. قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).
قالوا إن الآية تثبت أن الإنس كانوا يستعينون بالجن!
لكن يفسر ابن عاشور الآية فيقول: “المشركون في الجاهلية إذا سار أحدهم في مكان قفر ووحش، كانوا يتوهمون أن الجن تسكن القفر، ويخافون تعرض الجن والغيلان لهم وعبثها بهم في الليل، فكان الخائف يصيح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيخال أن الجني الذي بالوادي يمنعه .. وهي أوهام وتخيلات.
والذي أختاره في معنى الآية أن العوذ هنا هو الالتجاء إلى الشيء والالتفاف حوله. وأن المراد أنه كان قوم من المشركين يعبدون الجن اتقاء شرها. ومعنى (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فزادتهم عبادتهم إياهم ضلالًا. والرهق: يطلق على الإثم”(2).
إذن فالآية تنقل تخيلات وأوهام المشركين قبل الإسلام، وتقر أن هذه الأوهام زادتهم رهقًا، حتى جاء الإسلام ونفى كل هذه الضلالات وأصبح المسلمون لا يستعيذون إلا بالله.
2. قال تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ).
استدل البعض بالآية، باعتبار أنه كما سخر سليمان الجن، فوارد أن يسخرهم أي شخص آخر، لكن الآية حجة عليهم لا لهم؛ إذ تثبت أن تحكم سليمان في الجن كان معجزة فريدة من نوعها، لا ينبغي لأحد من بعده أن يتمكن منها، فقال سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)، وبذلك فالآية دليل ينفي سيطرة الإنس على الجن من بعد سليمان، ولو استطاع البشر العاديين تسخير الجن، فما قيمة معجزة سليمان؟!
3. قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ).
حين اتهم كفار قريش النبي بأنه تتنزل عليه الشياطين، ومنهم ينقل القرآن، نزلت هذه الآية لتشير إلى أن طبيعة الرسول الصادق الأمين تتنافى مع نزول الشياطين، وإنما يتناسب نزول الشياطين مع الكهنة الكذابين، الذين يستمعون للإفك والضلال، ويدَّعون كذبًا معرفة الغيب.
4. قال تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)
وهو دليل قاطع بأن البشر لا يمكن أن يروا الجن، فكيف يستعين البشر بالجن وهم لا يرونهم؟!
يقول ابن حزم: “إذا أخبرنا الله عز وجل أننا لا نرى الجن، فمن ادَّعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون من الأنبياء، فذلك معجزة لهم”(3).
ويقول الشافعي: “من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن، أبطلت شهادته، إلا أن يكون نبيًا”(5).
5. قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)
تدل الآية على أن النبي نفسه لم يرَ الجن، ولم يعلم باستماعهم إليه إلا بالوحي. فكيف يدَّعي أحد رؤية الجن وتواصله معهم؟!
6. لو تمكَّن إنسان من رؤية الجن وتسخيرهم وتشكيلهم في صورة بشر لاختلط علينا تمييز المعجزة، فلعل هذا النبي صاحب المعجزة هو جن تشكَّل في صورة إنسان، ولعل هذه المعجزة نتاج تسخيره لجن خرق قوانين الكون!
7. لو تمكَّن بشر من تسخير الجن لكانوا أغنى الناس، وأشهرهم، وأقواهم على الإطلاق، لكنا نجد مدَّعي ذلك أفقر الناس، وأجهلهم، وأضعفهم، إلا من استطاع إقناع حفنة من الجهلاء واستلاب أموالهم.
إذن فتسخير البشر للجن ورؤيتهم لا يحدث إلا معجزة من الله يجريها على يد النبي، وقد أجراها الله تعالى على يد سليمان فقط.
هل تتلبس الجن الإنس؟
1. (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا).
يشبِّه الله حال المرابي حين يُبعث من قبره بالمجنون الذي مسَّه الشيطان، فهو يتخبط عشوائيًا.
اعتَبَرَ البعض أن الآية تقر أن الشيطان يمس البشر ويتلبسهم ويصيبهم بالصرع!
لكن يجب الإشارة أولًا لمضرب الأمثال في القرآن وفي النصوص عمومًا ..
حين يريد المتكلم استحضار صورة ذهنية في نفس المستمعين فهو يستخدم مثلًا شائعًا ومعروفًا عندهم. وليس بالضرورة أن يكون المثل الشائع صحيحًا في ذاته، لكن المهم أن يحقق المثل الحالة النفسية المطلوبة، ولتحقيق ذلك يجب أن يستخدم المتكلم المثل طبقًا لتصورات المستمعين.
مثلًا يمكن أن أقول: “امرأة وجهها يشبه ضياء القمر”، فرغم أن القمر ما هو إلا جسم معتم، لكن الصورة الذهنية عند المستمعين أن القمر مضيء وجميل، وتشبيه المرأة بالقمر يفيد استحضار صور الجمال والضياء. فأنا لم أقل هنا: إن القمر مضي، بل استخدمت الصورة الشائعة عن القمر للإشارة إلى جمال المرأة.
أدلة تنفي تلبس الجن بالإنس
1. قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)
إن كان كيد الشيطان ضعيفًا، فهو ينفي قدرة الشيطان على السيطرة القاهرة على الإنسان، والتحكم في كلامه، وحركاته، وسلوكه.
2. قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
فهذا إقرار من الشيطان بأنه ما كان له سلطان على الناس، وكل دوره محصورًا في صورة الدعوة، مع بقاء كامل الإرادة في يد الإنسان في الاستجابة أو الرفض، ولذلك يستحق الإنسان الحساب على أفعاله.
3. قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)
تثبت الآية عدم وجود سلطان قهري على العباد لإغوائهم، والاستثناء (إلا من اتبعك من الغاوين) لا يعني أن للشيطان عليهم سلطان قهري لإغوائهم، بل تعني أن من اتبعك بإرادته فقد سمح للشيطان بأن يضله ويغويه.
4. عند جمع كل الآيات التي تشير لعلاقة الجن بالبشر سنجدها محصورة في الوسوسة/ الوعد/ الأمر/ التزيين، وكلها يفيد مجرد محاولة للإغواء وليس التسلط الجبري على الإنسان.
5. إن كان للجن قدرة على تلبس البشر وإيذائهم، فما يمنع الجن من السيطرة على أغلب البشر؟! ما يمنع أن يتحكم الجن في الكون كله بالتحكم في قرارات الحكام، وقادة الحروب، ومصير الشعوب؟!
6. سبق القول أن العقل لا يستطيع التعرف على وجود الجن أو صفاتهم، وكل معلوماتنا عنهم نستقيها من الوحي فقط، ولم يخبرنا الوحي بطريقة يقينية مثبتة لعلاج تلبس الجن بالإنس، وكل ما يفعله الدجالون ظنًا منهم أنه علاج هو اجتهادات نابعة منهم، لذلك هي بلا سند ولا أصل. ولا يمكن أن يمكِّن الله الجن من تلبس البشر، دون إبلاغنا بطريقة العلاج.
لذلك منع مالك الدجالين من هذه العلاجات الموهومة، وقال: “يُنهى الذي يزعم أنه يعالج المجانين بالقرآن؛ لأن الجان من الأمور الغائبة، ولا يعلم الغيب إلا الله”(14).